الــوعــد الــمــشؤوم
عندما تتكالب الضِباع والكلاب على الأسد وتنفرد به وتتوالى على نهشه إلى أن يُصبح مُنهكاً ، ولا يقوى على الحراك ، فتستأسد الكلاب والضباع تصول وتجول ، ولا يوجد من يرُدها ، وهذا ما حدث مع إمبراطورية عظيمة إنفردت بها وحوش الإنسانية وأشبعوها طعناُ بخناجرهم ، فبعدها إستأسدت الكلاب البشرية وخرجت الفئران من جحورها التي كانت تقرض في الجسد المنهك ، هذه الإمبراطورية العظيمة التي بسطت مُلكها على أماكن عديدة في العالم ونشرت الدين الإسلامي الحنيف في كُلِّ بُقعةٍ وصلت إليها ، إلى أن تكالبت عليها دولُ الشر والحقد الأسود في آخر خمسين سنةٍ من عُمرها ، وأطلقوا عليها إسم الرجُل المريض ، لتسقط كالأسد الجريح ، إنها الإمبراطورية العُثمانية والتي ما كان لها أن تسقط إلا بخيانة وغدر الإبن والأخ والصديق ولمصالح آنية مُتجاهلين مصلحة الأُمة بأكملها فسقطت فريسة لدول الشرِ والطُغيان ، الذين عاثوا فيها فساداً وتقاسموا الوطن العربي فيما بينهم كما يحلو لهم ، ولم يتوقف طُغيانهم عند التقاسم بل تعداهُ ليسلبوا أصحاب الحُقوق من حُقوقهم ، ويمنحوها لمن لا حقَّ لهم ، ويوزعوا العهود والوعود ، وكأنها مُلكيةً وأرضاً مشاعاً لهم ، وكان بهذا الوعد المشؤوم ، وعد بلفور ، وهو يومٌ أسودٌ بتاريخ فلسطين وتاريخ الأُمة العربية والإسلامية ، وهو اليوم الذي منحت فيه بريطانيا ما لا حق لها فيه إلى من لا يستحقه ، حيثُ منحت أرض فلسطين إلى الصهاينة ، وكأن فلسطين من أملاكها
في هذا اليوم بتاريخ 2 تشرين ثاني من عام 1917م ، أعلنت بريطانيا وخلال الحرب العالمية الأولى عن دعمها لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين ، والتي كانت منطقةٌ عُثمانية ذات أقليَّةٍ يهودية لا تتجاوز ( 5% ) من إجمالي عدد السُكان الأصليين ، وقد قام بإعلان هذا الوعد وزير الخارجية البريطانية آنذاك ( آرثر بلفور ) برسالةٍ موجهةٍ إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد وهو من أبرز اليهود في المجتمع البريطاني ، وقد كانت فكرة إنشاء وطن قومي لليهود قبل هذا الوعد بكثير ، إذ عُقِد في عام 1897م مؤتمر صهيوني في مدينة بازل بسويسرا ، وقد كان وراء عقد هذا المؤتمر هو الصهيوني ثويدور بنيامين زئيف هيرتزل ، وقد طالبوا في هذا المؤتمر بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التي كانت تحت الحُكم العُثماني ، وقد حصل هذا الصهيوني على تأييد أوروبي للمسألة الصهيونية من كُلٍّ من ( ألمانيا وبريطانيا وفرنسا ) والتي شكلت قوة ضاغطة على الدولة العُثمانية ، وتمهيداً لمُقابلة السُلطان عبدالحميد وطلب فلسطين منه ، مُستغلين المشاكل المالية والأحوال الإقتصادية السيئة التي تمُر بها البلاد ، وقد تم نقل الرسالة إلى السُلطان عبدالحميد من ثيودور هيرتزل عن طريق صديق للسُلطان عبدالحميد إسمهُ ليونسكي ، ولكن أجاب السُلطان عبدالحميد بالرفض ، وقال : إنهم يُمكن أن يستقروا في أي مُقاطعة أُخرى غير فلسطين ، وأنَّ فلسطين لا تُعتبر مهداً لليهود فقط بل هي مهدٌ لُكلِّ الأديان السماوية ، فقال له ليونسكي : في حال عدم إسترجاع فلسطين من قِبل اليهود ، فإنهم سيحاولون الذهاب إلى الأرجنتين ) ، وقام السُلطان عبدالحميد بإرسال رسالة إلى هيرتزل بواسطة صديقه ليونسكي جاء فيها :
( إنصح صديقك هيرتزل ، ألا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع ، لأني لا استطيع أن أتنازل عن شبرٍ واحد من الأراضي المُقدسة ، لأنها ليست مُلكي ، بل هي مُلك لكلِّ شعبي ، وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم ، فليحتفظ اليهود بملايينهم ، إذا مُزِقت دولتي فمن الممكن الحصول على فلسطين بدون مُقابل ، ولكن إذا لزم الأمر أن يبدأ فيكون التمزيق أولا ً في جُثثنا ، ولكن لا أوافق على تشريح جُثتي وأنا على قيد الحياة ) وبعد هذه الرسالة حاول هيرتزل مُحاولات عديدة أُخرى ولكن باءت جميعها بالفشل وخابت مساعيه ، ولهذا اشتد العداء للعُثمانيين وللسُلطان عبدالحميد ، إلى أن تم سُقوطها وتقاسُم تركتها بين دول الإستعمار البغيض ، وكانت فلسطين ضحية هذا الوعد المشؤوم الذي أقرته بريطانيا بحقٍ لا تملُكُه على أرضٍ ليست مُلكها ، وشردت وهجرت أهلها الأصليين ، لأنها تجردت من إنسانيتها وانتهكت الحقوق ، وأصبحت شريعة الغاب هي التي تحكم وحتى الحيوانات هي أجلُّ وأشرف منهم
ها هو يمر على هذا الوعد المشؤوم مائه وستة أعوام والشعب الفلسطيني لا يكِلُّ ولا يلين مُطالباً بكُلِّ الطرق بحقوقه المشروعة التي سُلبت منه بغير وجه حق ، وقد قدَّمَ من أجل ذلك آلاف الشُهداء والجرحى ، من أجل إحقاق الحق الذي سلبته بريطانيا بوعودها ( وعد من لا يملك لمن لا يستحق ) ففلسطين ليست مُلكهم ولماذا يمنحوها لشُذاذ الآفاق ، وذلك من أجل أن يتخلصوا من شرورهم التي إرتكبوها عندهم في أوروبا ، فاليهود هم قتلة الأنبياء ، ولا ينزلوا بأرض إلا ويعيثوا بها فساداً ، وهذه الدولة المسخ التي تُسمى إسرائيل ما هي إلا خنجرٌ في خاصرة الوطن العربي زرعه الإستعمار من أجل البقاء والتحكم في خيرات ومقدرات هذا الوطن العربي الكبير ، والشاهد الأكبر على ذلك ، كيف هبوا لنجدة كيانهم المسخ ، بعد أن مرَّغ أسود فلسطين في غزة العزة والشرف أنفهم في التراب ، وأسقط أسطورة كذبتهم الكبرى بأنهم الجيش الذي لا يُقهر في طوفان الأقصى ، فجُنَّ جنونهم وقصفوا المشافي والمدارس والمساجد والكنائس ، وتدمير أحياءاً كاملة بإبادة جماعية ، فقتلوا الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ في غزة ، ولكن مهما فعلتم ، فلن تثني همجيتكم عزائم هذا الشعب العظيم والتفافه حول مقاومته ، ودماء هؤلاء الشهداء هي منارات تضيء طريق التحرير إلى فلسطين ، ترونها بعيدة ونراها قريبة بإذن الله.
ستبقى فلسطين عربية إسلامية ، ولن يُفرط أصغر طفلٍ فلسطيني في شبرٍ من أرضها ، وستعود فلسطين مهما قتلتم ودمرتم ، فعودوا للتاريخ ففلسطين مقبرة الغُزاة على مر الزمان ، فنحن لسنا الهنود الحمر، فشعب فلسطين هو شعب الجبارين ، وهم الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"
صخر محمد حسين العزة
عمان – الأردن
2/11/2023
تعليقات
إرسال تعليق