قصة قصيرة...
.
عصفورة الكوكتيل
..
هي عصفورة أنثى جئت بها من بائع العصافير كي تؤنس وحدة ذكر ظل طويلا محتجزا في القفص دون رفيقة أو رفيق، ولن أكن أعلم الكثير عن طبيعة الطيور، إذ جاءني به ذات يوم زوج شقيقتي وقد عثر عليه جاثما وسط الطريق منذ عام وأكثر.
كنت أقدم له الطعام والشراب بشكل منتظم كونه روحا، وكان يطربني بصوته حين يصفّر لي وأصفّر له.
وما إن سمعت من صديقي عن وجوب إحضار رفيقة له أسرعت في إحضارها.
في البدء، كانت تنقر الذكر بمنقارها كي لا يقترب منها، وكنت أدهش لذلك.
ولما سألت البائع عن ذلك، أخبرني بأنها كانت لذكر آخر، فتذكرت ذلك العصفور الذي أخذ يصرخ طويلا حينما أخرج البائع أنثاه من قفصه ليضعها في القفص الخاص بي، وأنه كان متوترا جدا، يصرخ كثيرا، يهرول داخل قفصه ذهابا وإيابا، ينقر أرضية القفص بشدة، يرفع رأسه ويسقطها بعصبية واضحة، كدت ساعتها أن ألغي عملية الشراء لضعفي أمام هذا المشهد المأساوي، إذ كنت أدين نفسي، ويعنفني ضميري أني المُفرق بين حبيبين أو وليفين، لكن البائع أخبرني أنه شيء طبيعي وسوف يألف غيرها سريعا.
وأُرضيت بكلامه حينما وجدتها صامته فقط، تنظر من خلف القضبان لذكرها، وكأنها نظرة الوداع الآخيرة.
دار المشهد أمامي فأعادني لتلك اللحظة، وصوت البائع على الهاتف يكمل حديثه بأنها سوف تحن إليه بعد فترة.
لم يمر الوقت طويلا على العصفورة الأنثى حتى دخلت العش الخشبي وغابت. غابت لأوقات طويلة، وخروجها كان قليلا..
فتسحّبت أثناء تركها العُش ورفعت الغطاء الخشبي لأكتشف ماذا وراء اختبائها بداخله، فإذا ببويضات ثلاث داخل العُش.
وهنا تيقنت أنها الأنثى العفيفة التي حافظت بكل قواها عن ذكرى وليفها، وكذا على حملها منه ببضع بيضات هي ثمرة ذاك الحب الذي جمعهما يوما.
كانت جلستي تطول كل يوم في الشرفة ، أرقب فيها موقف الذكر، الذي كثيرا ما كان يحاول النظر من بعيد إلى داخل العُش ليعرف السر الذي عرفته، ولكنها كان تخرج رأسها له وتكشر عن مخالبها له، فيعود سريعا لجانبه البعيد عنها.
وذات مساء خرجت كعادتها لإلتقاط بعض الحبوب لإشباع جوعها، و هي تتمطى، ومخالبها متشبثة ببوابة العُش وجسدها في الخارج بكامله دون الذيل. جناحاها مفرودان عن آخرهما، وتميل لأسفل لتركتز على العصا الطولية المثبتة بين طرفي القفص، ولكنها لفترة طويلة بقيت ثابتة لا تتحرك، لم ترفع جذعها لأعلى، لم تحرك جناحيها، وصامتة جدا.
هنا أخذني الفزع عليها خشية أن تكون قد حشرت بين العصا وجسم القفص، فأسرعت لأهشها بسيخ من السلك المقوي كنت أستخدمه لفض النزاع بينها وبين الذكر كلما حاولت ضربه، وما إن اقترب منها السيخ حتى انتفضت من سكونها ، و تعالت صرخاتها بهستيرية لم أدركها. فجأة سقطت على أرضية القفص تتلوى وتنتفض وتتخبط، فأسرعت لإلتقاطها، ولكنها راحت تعض يدي، فتركتها سريعا، علها تكون خائفة مني، ولكنها أعادت الكرة مرة أخرى وراحت تتخبط وتدور حول نفسها وصراخها متصل بلا انقطاع، وجناحها الأيسر يعلو جسدها، فأدركت أن به شيئا أو ربما قد كسر، فمددت يدي سريعا لإخراجها من القفص رغم تزايد عضاتها ورحت أربت على رأسها وأنا أحاول فرد جناحها الأيسر، حتى صمتت وهدأت مخالبها عن كمش جلدي.. وكان صمتها طويلا.
أبكاني مشهدها طويلا وأنا أحتضنها بكفيّ وهي جثة هامدة، وسألت نفسي كثيرا هل كسر جناحها الأيسر هو السبب في موتها؟!!
أم أنها لم تتحمل الوجع والألم طويلا؟!!
لكني عدت لأفعالها السابقة مع هذا الذكر، موثقة منها في موقفها الأخير هذا والذي لم يحرك فيه أي شعور بالرأفة وجعله يأخذ موضع المشاهد فقط، وقد شاهدته بأم عينيها وهي جريحة، فهل له أن يعتني بها أثناء مرضها ؟؟وهل يمكنه الإعتناء ببويضاتها التي تحتاج للدفء كل الوقت؟؟
بالطبع هي أسئلة دارت في خلدها والإجابة عليها قاطعة بأنه لن يساعدها ولن يفعل من أجلها أي شيء، فكانت حسرتها شديدة وتقبلها للموت هو المنجى الوحيد لها من العيش ذليلة.
......
عصام عبد المحسن
تعليقات
إرسال تعليق