(وجبة بقائي اليومية / ربيع دهام)
قد يظنني الناسُ متكبِّراً. ربما لأنني قليل الخروج من المنزل. أو ربما لأنني "كاتب"، كما يدّعي البعض.
أو ربما لأن بيتي كبيرٌ ويقع في منطقة لا يقطنها عادةً إلا الأثرياء.
أو ربما لوجود سبب آخر. كيف أعرف؟
ومن يدري ما في عقول الناس غير مالكيها؟
أما أنا، فبإمكاني القول إنني لا أخرج كثيراً لأن قدميَّ تؤلماني
عند آخر المساء.
تؤلماني لأن عملي يفرض عليّ السير والوقوف طوال النهار.
ولهذا، كلما ولج الليلُ البيت، حاملاً تحت إبطه ساعاته، أراني أُبقي معي مخلفات نهاري القاتلة، حيت يتمخض عملي الدؤوب إلى ألمٍ حاد.
ألمٌ أتركه يتغلغل في داخلي وسط ضوضاء الظلام الدامس.
ألم القدمين. ما أشنعه. إلى أين المفر منه غير التسكع في قوقعة مقعدٍ
أو سرير.
كعامودي خشبٍ أجرّهما. أدفعهما. أرمي بنفسي في شرنقة الفرشة. أغرق فيها. ولا أنتصب مجدداً إلا عند صباح اليوم التالي، على أمل الانبثاق، مع إطلالة الشمس، فراشةَ حياةٍ من جديد.
ويأتي النهار، وتخرج الفراشة إلى حقلها.
تحور وتدور، وتلف حولها الأيامُ. تعصرها. حتى تكاد تخنقها.
ويعيد الزمانُ الكرّة.
العمل ذاته. الأماكن ذاتها. الوجوه ذاتها. الأفكار ذاتها.
الأفراح ذاتها. الخيبات ذاتها. المشاكل ذاتها.
وباعتباري صموتٌ في أموري الشخصية، أو غامضٌ كما يقول البعض، فإن "غموضي" هذا، غالباً ما يخلي مساحته الشاسعة لظنون الناس.
مساحةٌ تلعب فيها الألسنة كيفما تشاء.
حيث يعتلي الخيال صهوة اللسان. وتنعتق الحروف من غمدها، مثل بالون فُكّت عقدته، وراح، على وقع الهواء الهارب، يتحرك عشوائياً مثل فشار
فوق نار.
يضرب هذا ويصطدم بذاك.
أما أنا، ذاك "الكاتب المغرور"، كما يدعون، أتعرفون لماذا أكتب؟
هل سألتموني يوماً لماذا أكتب؟
ربما كل ما تدركونه عني أنني أكتب.
لكن أيهمكم أن تعرفوا لماذا أكتب؟
أجل. أكتب لأن قدميّ تؤلماني.
لأنني أجدني مضطراً، كل ليلةٍ، أن أركنهما في بوتقة سرير، أو أمام مقعد.
ولأن لا نديم للساني إلا الجدران الخاوية،
جدرانٌ أشرب معها سوياً كأس الوحدة اليومية،
ولأنني إنسان، والإنسانُ، مثل كل شيء في الكون، لا يحب الجمود،
أراني مضطراً، حين يحتلني الصقيع، أن أحرك شيئاً ما
في داخلي، أي شيء، كي لا أقبع إلى الأبد في حفرة الفناء القاتلة.
أهرع إلى شيءٍ يعبّر عني. إلى شيءٍ يحكي عنّي. يقول عنّي.
يفرغ شحنته على المستطيل الورقي أو الإلكتروني عني.
أجدني، حين يصيب البردُ قدمَي، ويذيب الملحُ أربطة ركبتَي، أركض بيدي إلى قلمي. أحمله. أمسكه. أتوسّل إليه. أقول له :
" متعبٌ أنا اليوم. مقعدٌ. أرجوك أكمِل أنت عني الطريق".
وأقبع هناك في قبوي. في قوقعتي. تحت صومعتي.
في عزلتي. في بيتي الكبير، على سريري. على مقعدي. حيث تتعبني الغرف العديدة، والمساحات الشاسعة المديدة.
أجلس هناك، أنا والجدران الخاوية، وأحلم بالدنيا، وأكتب.
وأكتب. وأكتب.
ولا أبالي بشائعات الألسن. ولا تلتهم عقلي افتراءات العقول الجوفاء، والظنون البلهاء.
ولا أكترث لأكاذيب تُحاك في الخفاء.
لاتهامات سخيفة منبعثة مثل النتن. مثل ثاني أوكسيد الكربون، من دنس النفوس.
أنا "الكاتب الكبير"، كما يقولون. أنا "الثري الساكن في منطقة ثرية".
أنا " المغرور المحب العزلة "، كما يدعون.
أنا "المتمسك بقلمي حد الانعتاق"، ماذا عساي أن أفعل؟
ماذا عساي أن أعمل؟ غير تحويل ألمي إلى أمل؟
غير الانتقام من لعنة النهار.
تلك اللعنة التي تحوّل عملي إلى ألم.
ألا يحق لي؟ ألا يحق لي، أنا الذي لا أحمل بين يدي، إلا الألم عراءً، أن أحيك من قلمي ثوباً أدفئ به ثلج صفحتي البيضاء؟
إن أنشج من وجعي كلمات حبرية تزحف إلى صقيعَ النفوس فتدفئها. تطبطب على مسامات الجرح فتشفيها؟
تخرم أسوار الخمول فتحفّزها؟
وها أنا ذا أكتب. أملٌ من جوف ألم. نبضٌ من موت قلب.
قلبٌ من سجن غرفة. غرفةٌ من عزف عزلة. وعزلة من مخالب دنيا.
تعليقات
إرسال تعليق