مع الخيام " النزعة الإيمانية " ... بقلم الشاعر والأديب كميل أبو حنيش

#مع_الخيام

#الحلقة_الثامنة

النّزعةُ الإيمانيّةُ

بقلم الأسير الأديب #كميل_أبو_حنيش 

كما ذكرنا في حلقةٍ سابقةٍ تتنازعُ الخيامُ ثلاث نزعاتٍ فلسفيةٍ: النزعية المادية، والنزعة اللاادرية ، وأيضاً النزعة الإيمانِيَّة، وسنعالج في هذه الحلقةِ النزعةَ الإيمانِيَّةَ، وقد عالجنا النزعتين الماديَّةَ واللاإدرية في الحلقة السابقة.

فمن خلال بعضِ نصوصهِ الشعريَّةِ يؤسفنا أنْ نلحظَ هذه النزعةَ بِيُسْرٍ، حيث يبدو الخيام مؤمناً بقوة ما أوْ خالقٍ متجاوزٍ وراء الطبيعة. ولا نعرف إنْ كان قد نظم هذه النصوص في مرحلةِ الشباب أمْ في مرحلة النُّضجِ أو الشيخوخة المتأخرةِ . 
نبدأ بهذا النص: 
لوْ كَانَ لِي كَالْلَّهِ فِي فَلَكٍ يَدٌ 
لَمْ أُبْقِ لِلأَفْلاَكِ مِنْ آثَارِ

وَخَلَقْتُ أَفْلاَكاً تَدُورُ مَكَانَهَا 
وَتَسِيرُ حَسْبَ مَشِيئَةِ الأَحْرَارِ
(91) 
إذن يؤمنُ الخيام بأنَّ ثمةَ خالقاً لهذا الكون، لكنه يبدي احتجاجه على هذا العالم وسنتهُ الكونيةَ الَّتي عزاها للأفلاكِ والكواكب وحركتِها، وكأنها هي المسؤولة عن هذا الخلل، بحيث يتمنى لو كانت له قدرات كلية كالله لكان خلق أفلاكاً أوْ كواكبَ غيرَها تسمحُ بحياة أُخرى مختلفة.

ثم نجده في رباعيةٍ أخرى يبدو قدريا ومستسلماً إزاءَ القدرةِ الإلهيةِ : 
إنْ لَمْ يَكُنْ رَبِّيَ قَدْ شَاءَ مَا 
شِئْتُ فَهَلْ يُمْكِنُنِي فِعْلُهُ

فَإِنْ يَكُنْ شَاءَ صَوَاباً فَمَا 
شِئْتُ سِوَاهُ خَطَاءٌ كُلُّهُ
(121) 
ولم نفهمْ ما قصده الخيام، فالرباعية تبدو غامضةً ولا نعرفُ إنْ كان يقصدُ حريَّةَ الإنسانِ، أمْ أنَّهُ خاضِعٌ لوجودهِ القدري، وفي الرباعيات التالية سنجد الخيام أكثرَ ميلاً إلى مخاطبة الذَّات الإلهية ومناجاتها:

أَوْجَدْتَنِي يَا رَبِّ مِنْ عَدَمٍ وَلِي
أَسْدَيْتَ فَضْلاً مَا لَهُ مِقْدَارُ

عُذْرِي بِأَنِّي عِنْدَ حُكْمِكَ عَاجِزٌ
مَا دَامَ يَوْماً مِنْ ثَرَايَ غُبَارُ
(92) 
بعد إقرارهِ وحمده على خلقِهِ من العدم، وعلى النِّعم الَّتي يحيا بها فإنَّهُ في ذات الوقت يُبدي عجزَهُ عن فَهْمِ حكمةِ الإلهِ من وراء الخلق الَّذي ينتهي بالموت، كما ويبدي احتجاجاً على هذه النهاية العدمية.

وفي رباعياتٍ أخرى نجده يتساءل: إذا كان الله قد خلقه وقدر له أفعالَهُ وسلوكَهُ في الحياة فلماذا سيحاسب على هذه الأفعال؟ وفي هذه الحالة يبدو الخيام متأثراً بالفكر الجبري في موازاةِ الفكر القدري. 
فهذا الصراع الفكري الَّذي كانَ سائداً في مرحلةِ الدولة الأموية وجد له صدًى في الفلسفاتِ والتصوراتِ الفكريَّةِ اللاَّحقة، ففي الرباعيَّةِ الآتيةِ يبدو الخيام جبريَّاً لا قدريا : 
إِلَهِي وَمُجْرِي كُلِّ حَيٍّ وَمَيِّتٍ 
وَرَبَّ السَّمَا ذَاتِ النُّجُومِ السَّوَاطِعِ

لَئِنْ كُنْتُ ذَا ٍسُوْءٍ فَإِنَّكَ سَيِّدِي 
وَمَا هُوَ ذَنْبِي إِنْ تَكُنْ أَنْتَ صَانِعِي
(103) 
فهو يحمل أفعالَهُ إلى القضاءِ والقدرِ فلماذا يحاسب إذن ؟ 
ويكرر في رباعِيَّةٍ أخرى:

أنْتَ أَبْدَعْتَنِي مِنَ الْمَاءِ وَالطِّ؟ 
يْنِ كَمَا قَدْ نَسَجْتَ أَلْيَافَ جِسْمِي

كُلُّ شَرٍّ مِنِّي يَلُوْحُ وَخَيْرٍ 
أَنْتَ قَدَّرْتَهُ فَمَا هُوَ جُرُمِي
(125)

ونراه يغزل على ذات القول ولكنه بصيغة تساؤلات تضعه في خانة المفكرين الجبريين: 
قَدْ كَانَ يَدْرِي الْلَّهُ كُلَّ فِعَالَنَا
مِنْ يَوْمِ صَوَّرَ طِينَنَا وَبَرَانَا

لَمْ نَرْتَكِبْ ذَنْباً بِدُوْنِ قَضَائِهِ
فَإِذَنْ لِمَاذَا نَدْخُلُ النِّيْرَانَا؟
(134 )

فإذا كان كل شيء مقدراً سلفاً فإذن لماذا سيحاسب الإنسان على أفعاله؟ وهذه التساؤلات هي استمرار لذات الصِّراعِ الفكريِّ الَّذي كان سائداً في العصور الإسلامِيَّةِ الأولى ما بين المدرسة الجبرية والمدرسة القدرية الذي يجري تكثيفهُ بسؤال ينتشر على ألسنة عامة الناس في كل العصور هل الإنسان مسير أو مخير؟

وفي الرباعيات الآتية يتَّجهُ الخيامُ اتِّجاهاً تصالحيا في إبداء التوبة عن أفعاله: 
إنْ تَجُدْ لِي بِالْعَفْوِ لَمْ أَخْشَ ذَنْباً 
أَوْ تَهَبْ لِي زَاداً أَمِنْتُ الْعَنَاءَ

أَوْ تُبَيِّضْ بِالْعَفْوِ وَجْهِي فَإِنِّي 
لَسْتُ أَخْشَى صَحِيفَتِي الْسَّوْدَاءَ
(53)

وهي دعوة تصالحية تنشد العفو رغم الآثام الَّتي ارتكبها في حياته وإنَّ عفو الإلهِ أكبر من هذه الآثام الصغيرة. 
ويكرر في رباعية أخرى:

إلهِي قُلْ لِي مَنْ خَلا مِنْ خَطِيئَةٍ 
وَكَيْفَ تُرَى عَاشَ الْبَرِيءُ مِنَ الذَّنْبِ

إِذَا كُنْتَ تُجْزِي الذَّنْبَ مِنِّي بِمِثْلِهِ 
فَمَا الْفَرْقُ مَا بَيْنِي وَبَينَكَ يَا رَبِّي
(54)

لا حياةَ بلا خطايا وذنوب، وفي الشِّق الثاني من الرباعية يرتقي بالذات الإلهية وينزّهها عن الخوض في صغائر البشر وذنوبهم، والعقوق والزلات، ولا يليق بجلالها وسموها سوى الرحمة والعفو والغفران ولا يليق بها الغضب ومجازاة الذنوب الصغيرة بالعقاب. 
وفي رباعية أخرى يُخاطِبُ الذات الإلهية باسلوبٍ جميل على هذا النحو: 
أَيَا مَنْ أَتَى بِي لِلْوُجُودِ بِقِدْرَةٍ 
وَرُبِّيْتُ فِي نَعْمَائِهِ أَتَدَلَّلُ

سَأْمْتَحِنُ الْعِصْيَانَ مَائَةَ حَجَّةٍ 
لأَعْلَمَ ذَنْبِي أَمْ سَمَاحُكَ أَجْزَلُ
(120) 
والغرض من الامتحان هو اليقين بأنَّ الذات الإلهية أعظمُ من الانشغالِ بالصَّغائر الَّتي يرتكبها البشر، وليس الغرض تحدي الذات الإلهية، أي أنَّهُ يُقِرُّ ويعترفُ ويتصوَّرُ بأنَّ العفوَ والكرمَ الإلهيَّ أكبرُ من زلات البشر وخطاياهم وأنَّ عدالة الخالق تأخذُ في حسبانها ضعفَ وهشاشَةَ الكائنِ البشريِّ الَّتي تدفعه لارتكاب مثل هذه الذنوب. 
وفي رباعيَّةٍ أُخرى يرفضُ مبدأَ العبوديَّةِ والتجارةِ في علاقة الانسان بخالقه: 
أَنَا عَبْدُكَ الْعَاصِي فَأَيْنَ رِضَاكَا 
وَلَقَدْ دَعَى قَلْبِي فَأَيْنَ سَنَاكَا

إِنْ كَنْتَ تَمْنَحُنَا الْجِنَانَ بِطَاعَةٍ 
يَكُ ذَا لَنَا بَيْعاً فَأَيْنَ عَطَاكَا
(114) 
وبهذه المخاطبة الجميلة الَّتي تعبر عن لغةٍ أدبيَّةٍ رائعةٍ مستخدماً فيها العبارات المتناقضة : الرضا مقابل العصيان، والسنا مقابل الدجى، رافضا مبدأ المقايضة: العبادة مقابل الجنان والخلود؛ لأنَّ ذلك يعتبر تجارة ويبتذل العلاقةَ بين الخالق والإنسان، ولأنَّ ذلك لا يجوز في مثل هكذا علاقة سامية، ولِأنَّ العطاءَ سِمَةٌ من سمات الخالق. 
وهذه الرباعية يترجمها أحمد رامي على هذا النحو: 
عبدك عاص أين منك الرضا 
وقلبه داجٍ فأين الضياء

إذا كانت الجنة مقصورة 
على المطيعين فأين العطاء
(209) 
عَبَّرَ الخَيَّامُ في رباعيته هذه عن نزعةٍ إيمانيَّةٍ، لكن أبرز ما يميز هذه النزعة أنَّها ليست قائمةً على الابتزاز، أو التَّذلل، أو الاستجداء، ولكنه خطاب ينطوي على التَّواضُعِ والأنفةِ والكبرياءِ الإنسانيِّ .
#كميل_أبو_حنيش 
#سجن_ريمون_الصحراوي

تعليقات