نص نثري .. يوم في أمريكا .. بقلم الأستاذ مدحت رحال

يوم في امريكا
___________

 امريكا
شيطان هذا الزمان
لي وقفة مع يوم قصير فيها
امريكا هوليوود غير امريكا الواقع

حطت بي الطائرة ذات يوم في مطار سان فرانسيسكو ليلا ،
كان في انتظاري احد اصدقاء أبي،
كان في غاية الكرم والمساعدة ،
امضيت ثلاثة اشهر فيها ،
كنت اخرج بين حين وآخر  للتجوال في احياء المدينة ،
احمل بضع قطع من القماش وقطع السجاد الصغيرة لبيعها
كما كان يفعل اغلب من يدخلون امريكا بداية ،
وبالتحديد في حي يقال له : third street
وهو حي يقطنه الزنوج ،

تصوروا ،
لقد كنت اتجول في حي الزنوج ، واطرق ابواب البيوت احيانا لعرض بضاعتي عليهم ،
لم اتعرض لما يشاع عن الزنوج من سوء أخلاق وعنف ،
لعل احياء الزنوج ليست كلها على شاكلة واحدة ،

بدات اضيق من الحياة في امريكا ،
وندمت اشد الندم ، منساقا وراء تخيلات واوهام عن امريكا ،
بدات فكرة مغادرة امريكا تراودني ،
اكتشفت ان طبيعتي وانتمائي تلحان علي في العودة ،
حاول اصدقاؤنا هناك ان يثنوني عن هذه الفكرة ،

وبعد ثلاثة شهور قررت السفر إلى نيويورك ،
وكان فيها عدد من اهل بلدي ،
وفعلا سافرت ،
ومكثت فيها شهرا ونصف اعمل مع صديق لي مقرب جدا في بيع الراديوات الترانزستور ،
كنا ندور في اسواق المدينة نتعرض للمارة ، ونطرق أبواب المحال التجارية ،

موقف مصيري تعرضت له كاد ان يكون فيه هلاكي،
وقفت على باب أحد المحال وفيه سيدة مسنة تقبع خلف مكتب مطل على الشارع ،
تقدمت من المكنب ورفعت يدي بالبضاعة وسألتها إن كانت تريد شراء راديو ،
قالت لي من خلف الزجاج لا تدخل ،
ظننتها قالت لي ادخل ،
دفعت الباب ودخلت
وإذا كلب رابض خلف الباب كانه نمر ،
احست السيدة بدخولي فتصرفت بحنكة ،
اومأت لي ان لا تتحرك ،
وكان طرف الحبل برقبة الكلب في متناول يدها ،
أمسكت به واخذت تسحبه قليلا قليلا بحيث لا يحس به الكلب الذي ركز كل انتباهه علي ،
ولما اطمانت إلى ان الكلب لن يصلني إذا وثب ،
شدت رباط الكلب بكل ما اوتيت من قوة وقالت اخرج ،
في اللحظة التي شدت فيها الرباط وثب الكلب وثبة عنيفة  بحيث لم ببق ببني وبينه إلا بضعة سنتمترات  ، ولكن قوة جذب الرباط اوقفته  ،
خرجت وانا اكاد اموت رعبا ،
ولولا حنكة هذه السيدة وحسن تصرفها لكنت لقمة سائغة للكلب بل للنمر ،

قرار العودة كان قد اختمر في ذهني ،
كان اهلي مستائين جدا لقراري وحاولوا ثنيي ،
ولكني كنت قد عزمت امري ،
وغادرت امريكا إلى غير رجعة وغير آسف عليها ،

يظن البعض وخاصة الاهل ان تركي زوجتي وابنائي ورائى هو السبب في ذلك ،
للحقيقة اقول :
كان هذا احد سببين ولم يكن السبب الرئيس ،
فعلا خفت ان اتخلى عن زوجتي واجني عليها إن علقت في امريكا ،
اما السبب الثاني ولعله السبب الاهم :
اني كرهت امريكا وتصورتها غولا يبتلع من يصل إليه ،
وعندما انظر الآن نظرة إلى الخلف فإني احمد الله ان اتخذت هذه الخطوة ،
قد اكون قد خسرت ماديا وربما كنت من الاغنياء لو بقيت ،
ولكني ربحت انتمائي وقيمي واولادي ،

بعض من سافر إلى امريكا كان مصيرهم القتل ،
وكثير جدا منهم لم يثروا ماديا ، بل إن حياتهم عادية
وكثير منهم خسروا انتماءهم وخسرتهم بلادهم ،
خسروا اولادهم وتفرنج اولادهم ،

لا شك ان البعض قد وفق في حياته المادية وجمع ثروة جيدة ، ولكن ما فائدة الثروة وقد خسروا انفسهم ،
البعض كان زكنا  وفطنا فما إن جمع ثروة جيدة حتى عاد إلى بلده وافتتح مشروعا يحيى به حياة كريمة ،
ولكنهم قلة تعد على الاصابع ،

وانوه إلى انني لا اعني بما عرضت من ذهب إلى امريكا للدراسة ،
كثيرون جدا لا يحصيهم العد هم الذين ذهبوا إلى هناك والتحقوا بالجامعات الأمريكية ونالوا شهادات عليا ووصلوا إلى مرتبة بروفسور وتبوأوا مناصب عالية اكاديميا ومهنيا ، منهم الفلسطيني والاردني والمصري واللبناني وغيرهم من الجنسيات العربية ، الذين تزخر بهم ارقى الجامعات الامريكية والمحافل الدولية ،

وفي نهاية هذا اليوم ،
انظر إلى الخلف واخاطب نفسي :
ماذا علي لو بقيت بضع سنين كغيري ،
فلربما اكون قد اثريت ،
اعود فأجيب نفسي :
وما ادراني اني قد اكون ممن قتل ،
او غير موفق ماديا
او ان يكون الغول الامريكي قد ابتلعني ،

قال لي صديق اثناء زيارة سريعة للبلد ،
مشيرا إلى جواز السفر الامريكي :
طالما هذا الجواز في جيبي فانا في امان ،
إلى هذا الحد وصل الامر 
( الجواز الامريكي هو الامان )،

وللحقيقة هؤلاء خسروا انفسهم واهليهم ،
إن لم يكن في هذا الجيل ففي الأجيال القادمة ،
حيث سيقول احفادهم :
كان جدنا عربيا
إن لم ينسوا هذا الاصل ، ،،

 مدحت رحال. ،،،،

تعليقات