قصة (دب وحيد )
لا أعرف أيُ حظ أحمق ألقى بي في جوف هذا الفندق التعس! كنت قد وَصلتُ لتوّي قادماً من الجنوب، كان التعب والأرهاق قد احالا جسدي إلى قطعة من الخردة، وَضعتُ ثيابي جانباً تمهيداً لغسلها فيما بعد، وكنتُ في سبيلي لأرتداء ثياباً نظيفة غيرها ،عندما اقتحمَ رجلٌ أمرد الوجه الغرفة كالأعصار!حدّقتُ مندهشاً أول الأمر فيه وفي خادم الفندق الذي كان يحمل أمتعته، رحنا نرمش في وجوه بعضنا لبرهة ، انتابني الخجل وكَتمتُ ضحكة كادتْ تَفلتُ مني،فقد كان الرجل الأمرد أحولاً! راح يحدّق للحظة في جسدي شبه العاري، ثم أشاح بعينيه المتباعدتين. أرتديتُ ثيابي بسرعة، فيما استدار هو نحو الخادم وأخذ يساعده في ترتيب أغراضه، أخذت أراقبه من خلف صحيفة كانتْ ملقاة بجانبي على الطاولة، بدا نظيفاً ومرتباً، وضع منشفة زرقاء على وسادته ثم قام بأستبدال ملاءة الفراش،أحضرَ الخادم ماتبقى من أغراضه، لفتَ أنتباهي لعبة الدبُّ الكبير التي كان يحملها بين يديه، لاحظت كيف اختطفها الرجل الأمرد منه، ثم قام بأحتضانها وضمها إلى صدره وكأنها حبيبته! ظلَّ ساكناً في مكانه، بالكاد كان يرمش! اختفى الخادم بعد أن وضعَ الأمرد في كفّه بعض النقود المعدنية!. لعنتُ حظي، ظَننتُ أني سأجد الراحة هنا لوحدي ولو لبضع ساعات،لكن خاب ظنّي! لم يكن مشاركة السكن بالفنادق بغريبٍ أو جديد علي، لكني لم اصادف مثل هذا الكائن من قبل، أدركت وأنا المثقّفُ الكبير بأني أمام رجل شاذ! كان هذا واضحاً من حركاته وميوعته التي بدت جليّة الآن، حاولَ أن يبدأ حديثاً معي، في البداية لم يفعل! بل أكتفى بمحاولة جلب الهواء لملامح وجهه المحمرّة وبحركاتٍ مضحكة من يديه الشبيهتين بأيدي البنات، نهضَ عن سريره ،تقدم خطوتين ثم جلس بجانبي والتصق بي، أدار يده حول كتفي وكأنه يعرفني منذ سنوات! اتسعتْ عيناي دهشة ثم تَلوّنتْ ملامح وجهي بغضب عارم، أبعدتُ يده بسرعة وكأني أزيح بذلك حجراً ثقيلاً، أرتدَّ للخلف وراحتْ عيناه المضحكتان تدوران بغباء في محجريهما، كان واضحاً أن حركتي أخافته قليلاً! نهضَ وسارَ صوب النافذة، بقي للحظات يحدّق بأتجاه الساحة المستديرة الكبيرة التي كانتْ تعجُّ بالسيارات والبشر، تنهدَّ ثم عاد لسريره واحتضن لعبة الدب بصورة شديدة!كنت اراقبه خلسة، قال فجأة :
-أنا موظف هنا في بغداد، لا سكن لدي ، جئت من محافظة بعيدة، لست متزوجاً، مضتْ شهور كثيرة وأنا أتنقّلُ في الفنادق، لكن أغلبها قذر، أعني الفنادق. لم أردُّ عليه مباشرة، واصلَ التنهّد وأخذ يزيل غباراً وهميا من على منشفته الزرقاء، كنت أشعر بالجوع والنعاس، وتمنيتُ لو أني غَرقتُ في ظلام الغرفة لوحدي، لكن هذا المخلوق أربكَ كل مخططاتي اللعينة. وضع الدبُْ البنيّ جانباً واستلقى،راح يحدّقُ في السقف، كان يبدو طفلا ضائعاً لا رجلاً كبيراً، شَعرتُ ببعض التعاطف، قلت له :
-أليس عندك أهل؟ أعني أخوة، أم وأب. وكأني صَببتُ ماءً مغلياً فوق رأسه، أنتفضَ جالساً، أخذ يرتعش فجأة وقد أحتضنَ دبّهُ الكبير بصورة قاسية إلى صدره، قال وهو مازالَ يهتزُّ كبندول الساعة :
-لقد ماتتْ أمي!ليس أمي فحسب ،بل أختي الكبيرة وأخي أيضاً، لم يخرج أحداً منهم، الأنفجار والحريق وقع في منتصف الدار تماماً، انبوبة الغاز أحرقتْ أختي! لم أتعرف عليها، كانت سوداء متفحمة تماماً!. لم انبسُ بحرف، كان شعوري خليط بين الندم لسؤاله والأسى لحاله، واصل الاهتزاز، للامام والخلف هذه المرة، قال وقد أحنى رأسه ومسَّ رأسُ الدب بقبلة خاطفة :
-أستطعتُ الخروج بهذا الدبُّ فقط، كان معفراً بالقذارة عندما وجدته في حديقة بيتنا، أنه لأخي الصغير! يبدو جميلا أليس كذلك؟ نظفته وعطرّته، مَضتْ شهور وهو برفقتي. تباً! كدتُ أبكي فعلاً هذه المرّة، كنت مثقفاً خجولاً بعض الشيء ، وهذه القصص تؤثر بي وترهق قلبي الصغير! نَهضتُ من مكاني، رحتُ أسير في الغرفة بلا هدف، تَوقفتُ عند النافذة، بَقيتُ صامتاً لدقائق بَدتْ طويلة، اتخذتُ قراري، لم أكن جباناً بقدر ماكنت أريد الوحدة، كان لي أيضاً همومي الخاصة، التفتُ برأسي إليه، ياللعجب! لقد نامَ بسرعة، كانت أنفاسه تتصاعد بأنتظام وهو يحتضن شقيقه الدب! خنقتني العبرة، تَمنيتُ لحظتها لو لم يكن شاذاً، كان طفلاً كبيراً في غفوته بسلام، سرتُ على أطراف أصابعي وأخذتُ أجمع اغراضي القليلة في الحقيبة، ألقيت النظرة الأخيرة، كان بودّي مصافحته فعلاً، مَشيتُ وأغلقتُ الباب خلفي بهدوء، رحتُ أسير في شوارع بغداد بلا هدف في البداية، تذكرتُ بأني جائع، جذبتني روائح الطعام المتسلّلة من بعض المطاعم ذات الأعلانات المغرية، طلبت غداءً دسماً ثم أخذتُ أفكّر بأستئجار غرفة خاصة بي ،لكن لوحدي هذه المرة!!(تمت)
بقلم /رعد الإمارة /العراق /بغداد
تعليقات
إرسال تعليق