قصة (بطل من ورق )
بأصابعها الرفيعة البيضاء، تَناولتْ من الحوض المعدني الكبير حزمة من الحشائش اليابسة شبه الخضراء، تَقدمتْ بثبات صوب الجمل والذي بدا شكله مضحكاً وهو يحدّقُ إلينا من خلف السياج الحديدي المشبّك. دَفعتْ بما لديها نحوه، سرعان ما مدَّ الأخير رقبته الطويلة وأخذ يلتقطُ الحشائش من يدها الثابتة الممدودة،تباً له! كان يلوكها بطريقة آلية تبعث على المللْ، حتى أنها أثارتْ اشمئزازي! كنت أقف خلفها تماماً، بيد أني مالبثت أن تَراجعتُ للخلف ، واصلتُ التحديق برعب ودهشة لتلك الأسنان الضخمة والزبد الكثيف الذي كان يحيط بشدقيه المضحكين المتدليين! انتابني الذعر وأنا اتخيّلُ كفي الصغيرة وحزمة الحشائش التافهة بين أسنانه الضخمة الشبيهة بالأحجار الصلدة ، وبلا وعي ضَممتُ يدي اليمنى إلى صدري فيما أخفيتُ الأخرى في جيب بنطالي الخلفي ! لمحتها تتقدم صوب الجمل،تَقدمتُ خلفها، وجدتُ نفسي أقف بجانبها ، ملاصقاً لها ، هَمستُ لها محذراً، وطلبتُ إليها الابتعاد بسرعة عن هذا الشيء الضخم! لم تنبسْ بحرف، كان ثمة حباّتْ من العرق قد ظَلّلتْ جبينها الحلو، رمقتني بنظرة جانبية طفولية لعينة، ثم بتصميمٍ أرعن تَناولتْ حزمة أخرى من الحشائش ودنتْ أكثر هذه المرة! ياربي، أحمرَّ وجهي بشدة وأخذتُ الهث، وضعتُ أصابعي على كتفها وَضغطتُ برقّة،فيما ظلَّ بصري معلقاً بعينيّ الجمل الباردتين! مرَّ من أمام ذهني خيالٌ سريع،تَصورتُ نفسي أخوض معركة غير متكافئة بتاتاً مع هذا المخلوق، فيما لو تجرأ وقضم شيئاً من أصابع حبيبتي! استدارتْ نحوي فجأة وهي تَبتسم، اصطَبغتْ ملامحها العذبة بأحمرارٍ خفيف، قالت :
- انتهى الأمر، هيا بنا. قالت هذا ثم هزّتْ كتفيها،
كنت عابساً، نَفختُ الهواء بقوّة، هَمستُ لنفسي من بين أسناني:
_أخيراً أنتهى الأمر بسلام!.
سرنا متلاصقين، لايقطع صمتنا سوى صوت خطواتنا، كنت اتأملها وهي تمشي بجانبي بكل رغباتها المجنونة! لكني كنت أهرب من نظراتها، خاصة تلك التي ترمقني فيها بزاوية عينيها! الملعونة حركتها تلك كانت تثيرني وتملأني بأنتشاء عجيب ، حتى أنني كنت أتمنى لحظتها لو ضَربتُ الأرض بقدمي مرة ومرتان!!.
مرّتْ الأيام بصورة ثقيلة، وقبل أن يحين موعد لقاؤنا، ضَحكتُ بشكل مطوّل في غرفتي ، حتى أن الدموع تطافرتْ من عيني، ثم تنهدتُ طويلاً، وأنا أتذكّرُ كل حركاتها الطفولية العذبة. تجولنا كثيراً، وضحكنا أكثر، كان المرح يحيط بهيئتها، أما أصابعها الطريّة فلم تفارق كفي ابداً! قادتنا خطواتنا كالعادة صوب جملها المحبوب، وجدتُ نفسي أنقاد إليها وإلى جنونها المعتاد! حدقّنا بدهشة نحن الأثنان، فهذه المرة كان الجمل مختلفاً ، فهو أشدُّ بياضاً من سابقه، حتى إنه أصغر بكثير، لكن مازادَ دهشتنا، أو دهشة حبيبتي بالأحرى !أنه لم يكن ثمة حشائش في الحوض المعدني ،كان خالياً تماماً!!وجدتها تَخفضُ بصرها للأرض، كانت الخيبة والغضب قد تمكنا منها، رَثيتُ لحالها بصدق وتعاطفتُ تماماً معها،حتى أني كدتُ أبكي! ظَلّتْ مقطبة الجبين تدير بصرها الحائر في كل الاتجاهات، أخذتْ تَرمقُ الجمل، لكنها فجأة أدارتْ بصرها صوبي وراحتْ تحدّقُ فيّ بنظراتٍ جامدة! شَعرتُ بخجلٍ شديد، يا إلهي، هل تقارن بيننا مثلاً، أنا والجمل؟! لكني سرعان ماطردتُ هذه الفكرة المضحكة عن خيالي!رأيتها تنحني بكامل فتنتها لتلتقط ما تناثرَ من حشائش هنا وهناك، هَرعتُ بكل مالديّ من طاقة وأخذتُ أجمعُ الحشائش معها، وضعته بين كفيها الصغيرين، أخيراً أصبح لديها حزمة لا بأس بها، تَورّدتْ ملامح وجهها، ضَحكتْ ضحكة قصيرة ثم َتقدمتْ بخطواتٍ ثابتة نحو الجمل وهي تلوّحُ بالباقة. أخذتُ اراقبها، عَلتْ الدهشة ملامح وجهي حين رأيتُ كيف تقدّمَ منها الجمل بشفتيه الغليضتين، أصبحا قريبين من بعضهما ، لايفصلُ بينهما إلا السور المشبّك! مَنحتهُ ما في يدها، ثم راحتْ تداعب رأسه!لم تكن خائفة بقدر ماكانتْ مبتهجة ، كان يطلُّ من عينيها فرح طفولي أعرفه! بقيتُ اراقبهما بحذرٍ شديد، كنت متشنجاً! رأيتها فجأة تلتفت نحوي وتهتف :
-تعال، إنها أنثى، هذه ناقة يا حبيبي!
أخذتْ تضحكُ مثل مجنونة وتصفّقُ بيديها الأثنتين! بعد لحظات سمعتها تتحدث مع الناقة بهمهمة لم أتبينها! قالت :
-تعال هنا، تريد تبوسك!.
ولدهشتي مدّتْ الناقة عنقها الطويل نحوي وهي تتلاعب بشفتيها الكبيرتين وترمقني بنظرات لاتخلو من الإغراء،
لوهلة صَدقتُ الأمر، واصلتُ التحديق بالشفتين المتدليتين،ثم احمرَّ وجهي وانتابتني رغبة شديدة بالتقيؤ،تراجعتُ للخلف بسرعة واستدرت لاعناً بسرّي الأثنين حبيبتي والناقة!. شَعرتُ بخطواتها خلفي، كنتُ أمشي والغبار يثورُ من تحت قدمي، لم أجرؤ على التلفت للخلف، كنت أفكّر جاداً هذه المرّة بطريقة تبعدني وحبيبتي عن الناقة والحديقة اللعينة،وللأبد، لكن دون جدوى، فبعد أيام عدنا، لكن هذه المرة لقفص الأسود فحسبْ. (تمت 😁).
بقلم /رعد الإمارة /العراق
تعليقات
إرسال تعليق