قصة قصيرة .. الربيع يرحل مبكراً

قصة (الربيع يرحل مبكراً)

عندما كنتُ صبياً أخطو صوب المراهقة ، كان يلذُّ لي َتسلّق أسوار حديقة الجيران ذات النهايات المسنّنة، أختار أوقات الظهيرة لأفعل ذلك ، وكان أنفي المستقيم بنهايته الحلوة الُمدبّبة هو من يقودني لإكتشاف أفضل الأزهار وأشدّها رونقاً وعطراً، فجأة شعرتُ كما لو إن الشمسَ قد أشرقتْ في وجهي، كانتْ هناك تراقبني! لم تكن زهرة، بل فتاة بشعرٍ ذهبي مُنسدل على كتفيها النحيلتين، أوقفتني بإشارة من إصبعها السبّابة، كدتُ أن أبلّل نفسي حينها، لقد َتسمرّتُ وكادتْ أقدامي أن تنغرسا في الأرض المعشوشبة،قالت :
-انا اعرفك، أنت إبن الجيران المشاكس، جئتَ تسرق أزهار البابا كالعادة، لقد كنت أراقبك منذ البداية!. قلت لها وانا أحاول أن أبدو غير مكترثاً البتة :
-هل ستصرخين الآن؟ أعني أنك لم تفعلي. إبتسمتْ بسخرية وقالت بطريقة إستعراضية :
-وما الفائدة، ستهرب في كل الأحوال، ستفعل ذلك مثل جرذ.  قالت ذلك ثم أخفت فمها بأصابعها وراحت تضحك بعذوبة،قلت لها :
-هل أنت جديدة هنا؟ أعني لم أرك مسبقاً. تَقدّمتْ نحوي، لكنها تركتْ مسافة لابأس بها بيننا، تَنهدتْ ثم قالتْ وهي تَهزُ كتفيها :
-هذا لأني كنت مسافرة، لقد رأيتُ أزهاراً أفضل من هذه التي تود سرقتها.  قالت هذا ثم إستدارتْ منصرفة، كدتُ أن أصيح بها، لكنها إلتفَتتْ قبل أن تدخل ،قالت وهي تحدّقْ بشرودْ :
-ربما نصبح أصدقاء، من يعلم. في اليوم التالي والذي تلاه لم أذهب صوب الحديقة، شعرتُ بأن الوضع قد  أصبح محرجاً، بوجود مثل هذه البنت ذات الشعر الذهبي، لكن بعد أيامٍ تلتْ ذلك، َمرّتْ وكأنها دهر، قادني الفضول للمرور بجانب الحديقة ذات الأزهار الفواحة ، سمعتُ ضحكة قصيرة تلاها صوت خافت :
-انت ياشبيه الجرذ! تعال هاك نصيبك.  شعرتُ بالغضب،وَددتُ لو إني دَسستُ بأصبعي في أنفها، وجدتها تمسكُ بقضبان السياج الحديدي وهي تحاول إخراج رأسها عبثاً، أضحكني منظرها، نسيتُ غضبي ورحتُ أشمُ شذاها وشذا الورد!. هذه المرة احتفظتُ بالأزهار، كانت المرّة الوحيدة التي فعلتُ فيها ذلك!.  في اليوم التالي ،َطلبتُ من أمي أن تجلبَ لي بعضُ حباتٍ من الفراولة الطازجة، لم تسألني مالمناسبة؟ فقد تَبخرتُ من أمامها وأنا اقبض بشدة على باقة الأزهار الذابلة،عادتْ أمي وهي مُقطبة الجبين، َرمتْ لي بعلبة الفراولة ثم أخرجتْ كيساً صغيراً، قالت إنه حرملْ! قبل الغروب بقليل راحتْ أمي تَدور في أنحاء البيت وهي تحمل بيدها مبخرة، كانت تتمتم مع نفسها بكلمات، ثم ترفع يدها للسماء تبتهلُ وتتضرعْ، في النهاية دمعت عيناها وهي تفعل ذلك، قالت لأبي الذي كان يسعل بصورة متقطعة :
-مسكينة بنت الجيران، وجدوها ميتة في فراشها هذا الصباح، آه، الربيع يرحل بسرعة.  إلتفتُ صوب أمي، بل وقفتُ في طريقها،كانتْ شفاهي ترتعدْ، سمعتُ أبي يقول لها وهو يطلبُ منها إبعاد المبخرة اللعينة، قال :
-كانت مريضة بالقلب،مسكين والدها، لم يترك طبيباً إلا وذهب بها إليه،لكن بلا فائدة! عاد بها من الهند أخيراً. َهرعتُ إلى غرفتي،كانت باقة الأزهار ترقد بسكينة على طرف السرير حيث تركتها، وضعت علبة الفراولة بجانبها، ثم رحنا ننشج نحن الثلاثة!!. (ملاحظة :حتى الجماد يبكي، هكذا يصور لنا الخيال احياناً) تمت. 

بقلم /رعد الإمارة /العراق

تعليقات